Site icon سات لينك موقع الفضائيات الاول

اقرأ.. ولا تقل: مالي بـ«أوبك بلس»

لا يفعل تحالف «أوبك بلس» شيئًا دون أن يقيس ردّ فعل الأسواق العالمية. يختبر أعصاب المستثمرين. يقرأ حركة مخزونات النفط كطبيب يراقب نبضًا غير مستقر. الزيادة الأخيرة في إنتاج التحالف (137 ألف برميل يوميًا)، تبدو على الورق كمية هامشية، لكنها في الواقع اعتراف بأن الخطر ليس في قلة الإنتاج بل في فائض مرتقب قد يقلب المعادلة.

تحالف «أوبك بلس» منظمة اقتصادية غير تقليدية، شبكة مصالح تربط بين دول تصدّر النفط بكميات هائلة، تتقدمها السعودية وروسيا. تشكّل بعد 2016، عندما اكتشفت الدول المنتجة أن سوق النفط أصبحت أكثر تقلبًا من أن تُترك للمصادفة. «أوبك» الأصلية كانت تضم 13 دولة، لكن دخول روسيا ودول أخرى من خارجها خلق ما يشبه غرفة عمليات مشتركة، يتم فيها تحديد مستوى الإنتاج شهريًا.محاولة لضبط إمدادات الطاقة العالمية، حتى لا يغرق السوق في فائض أو يتم خنقه بندرة المعروض.

التحالف يمتلك القدرة على التحكم في سلعة تحرّك الطائرات والمصانع وتقلق الموازنات العامة. يجتمع الأعضاء خلف أبواب مغلقة، يتفاوضون بالأرقام، يدرسون استهلاك الصين، سياسات أمريكا، ومخزونات أوروبا، ثم يقرّرون كم برميل سيخرج من باطن الأرض في الشهر التالي.

قرار التحالف بزيادة 137 ألف برميل يوميًا رسالة مفادها أنه يملك زمام الإيقاع في سوق طاقة تتغير بسرعة، لكنها لاتزال تعتمد على النفط لتدير العالم. في خلفية المشهد، كانت الأسعار تقترب من 60 دولارًا، وهو مستوى يقلق ميزانيات تعتمد على النفط لتغطية الإنفاق العام، لكنه في الوقت ذاته يمنح الصناعات الكبرى فرصة لالتقاط أنفاسها، وحين ارتفع السعر إلى 65 دولارًا بعد العقوبات على موسكو، شعر التحالف بأن السوق عاد يتذكر أن النفط ليس وفيرًا دائمًا.

زيادة الإنتاج الأخير (من وجهة نظري) مع تثبيت الإمدادات خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام المقبل، إشارة تحمل معنى مزدوجًا: رغبة في إرسال رسالة طمأنة إلى المنظومة الصناعية العالمية، مع الاحتفاظ بحق التراجع إن تحولت السوق إلى بركة راكدة من الفائض والتخمة.

السعودية وروسيا (وهما الثقل الحقيقي داخل التحالف) تتحركان بتوازن حذر. كلتاهما تحتاج سعرًا لا ينهار، وإنتاجًا لا يثير غضب الحكومات المستهلكة.

العقوبات على شركات الروس (روسنفت ولوك أويل) جعلت موسكو في مأزق ثنائي: الحفاظ على حصتها من السوق، لكن دون استفزاز الأسواق الغربية.

قرار زيادة إنتاج «أوبك بلس» لا يمكن فهمه بمعزل عن أرقام أكبر. التحالف رفع أهداف الإنتاج منذ أبريل بأكثر من 2.7 مليون برميل يوميًا، أي ما يعادل 2.5% من الإمدادات العالمية، لكنه خفّف الوتيرة في أكتوبر ونوفمبر. تتخيله كأنه يقول: لقد اختبرنا حدود الصبر، والآن نحاول ألا نكسر الزجاج بأيدينا.

المفارقة أن زيادة الإنتاج تأتي بعد سنوات من التخفيضات (وصلت ذروتها في مارس الماضي، حين تم سحب نحو 5.85 ملايين برميل يوميًا من الأسواق).

حينها، قالت الدول المنتجة إن الحذر ليس رفاهية بل ضرورة أمام اقتصادات متقلبة، وطلب غير مستقر، ومخزونات تمتلئ وتفرغ بتطورات غير مألوفة.

اليوم يتغير المزاج قليلًا. توقعات النمو العالمي لم تعد كئيبة كما كانت بعد جائحة «كورونا/كوفيد-19»، والمخزونات انخفضت، وهناك اعتقاد بأن المستهلكين قد يتحملون زيادة طفيفة دون أن يتصدع الطلب، لكن المعضلة تظل: أي خطأ بسيط في الحساب قد يعيد الأسعار إلى مستويات تصيب المنتجين بالهلع والمستهلكين بالإحباط.

نظرة بسيطة إلى مساهمات الدول الأعضاء في الزيادة توضح حقيقة التوازنات: السعودية وروسيا ستضيفان 41 ألفًا لكل منهما، العراق سيضيف 18 ألف برميل، الإمارات 12 ألفًا، والكويت 10 آلاف. أرقام صغيرة، لكنها تجدد التذكير بأن التحالف يتصرف كمن يضبط عقارب ساعة حساسة، دون أن يفتح خطوط إنتاجه دون حساب.

قد تقول: «ما تتحدث عنه وتخوض فيه لا يعنينا». وأقول: ليس مطلوبًا أن نحكم بمشاعرنا على تطورات تحالف «أوبك بلس»، بل أن نفهم أن النفط أصبح أكبر من مجرد سلعة. صار أداة سياسية ومالية ووجودية. الزيادة الأخيرة ليست إعلان قوة من «التحالف»، ولا علامة ضعف، بل محاولة للبقاء وسط عالم لا يثق بأي شيء ثابت، حتى لو كان تحت الأرض منذ ملايين السنوات.

الدول النامية (في منطقة الشرق الأوسط، والعالم) تبدو عالقة في المنتصف. تحتاج النفط لتشغيل مصانعها وبناها التحتية، لكنها تدفع ثمنه بالدولار، وعندما يرتفع السعر يرتفع الدين والعجز معًا. قرارات الإنتاج ليست بالنسبة لها خبرًا اقتصاديًا، بل مسألة بقاء مالي، وربما سياسي، إذا تدهورت الأوضاع أكثر.

التجار يعرفون أن أسواق النفط لا تتحرك فقط بسبب كمية النفط المعروضة أو المطلوبة، بل بسبب توقعات الناس عن المستقبل التي يصعب قياسها بالأرقام. إنها لعبة نفسية، حيث الخوف أو الثقة في المستقبل قد يرفع الأسعار أو يخفضها، تمامًا كما تفعل كميات النفط المتاحة في السوق. ما يعني أن القرار الأخير لـ«التحالف» محسوب بعناية، هدفه التأثير على توقعات السوق وطمأنة الجميع.

لكن العالم ليس غرفة تداول مغلقة. هناك مستهلكون يرون فقط فواتير الطاقة، مزارعون يعتمدون على الوقود لتشغيل معداتهم، وأسر تحسب تكاليف الاستهلاك في فصل الشتاء قبل أن يبدأ البرد.هؤلاء لا يعنيهم إن كانت الزيادة 137 ألفًا أو مليونًا. المهم ألا يتحول النفط إلى عبء إضافي على حياتهم الهشة، وميزانياتهم الشخصية.

في أوروبا، الحكومات تحت ضغط ارتفاع تكاليف الكهرباء والتدفئة بعد أزمة الغاز الروسية (الاستهداف المشبوه لخط غاز «نورد ستريم»، وتطوراته). أي اضطراب جديد في أسواق النفط قد يعيد الشعور بالعجز الذي انتشر عام 2022. لذا، تنظر الحكومات إلى قرار «أوبك بلس» بعيون قلقة، لكنها لا تستطيع فعل الكثير غير مراقبة السوق والتفاوض بهدوء.

على الجانب الآخر، الولايات المتحدة تلعب لعبة مزدوجة. تدعو لأسعار معقولة لحماية المستهلكين، لكنها تحتاج أيضًا قطاع النفط الصخري ليبقى مربحًا. أي هبوط ممتد للسعر يجعل الشركات الأمريكية تتراجع عن الاستثمار، وأي ارتفاع كبير يضع إدارة الرئيس جو بايدن في مواجهة مع الناخبين.

الصين، المستهلك الأكبر، تتعامل مع النفط كأداة لقياس صحة اقتصادها الصناعي. التباطؤ الذي ضرب مصانعها جعل الطلب أقل شراسة، لكنها تشتري كمن لا يريد أن يفقد موقعه على المائدة. لذلك، ترى في قرارات «أوبك بلس» جزءًا من مشهد أكبر يدور حول التجارة، والديون، وتباطؤ النمو العالمي.

المراقب العادي قد يتساءل: لماذا كل هذا القلق على 137 ألف برميل في سوق تنتج أكثر من 100 مليون برميل يوميًا؟ الإجابة أن المسألة ليست في الكمية، بل في الإشارة. تحالف «أوبك بلس» يقول للسوق إنه حاضر، متنبه، ولن يسمح بإغراق السوق أو تعطيشها.

في الوقت نفسه، يخاطب التحالف الحكومات الغربية بنبرة غير مباشرة: لسنا معرقلين للسوق، بل نحاول تخفيف التوتر قبل أن يتحول إلى أزمة. لكن تلك الحكومات تدرك أن كل برميل إضافي قد يعني تخفيف الضغط عن مواطنيها، وكل خفض مفاجئ قد يشعل غضب الناخبين.

الطلب العالمي على الطاقة لم يعد مسألة ميكانيكية. السيارات الكهربائية تتزايد، شركات الشحن تبحث عن بدائل، والمستثمرون صاروا يقرأون نشرات المناخ (المتأثرة بالوقود الأحفوري) قبل نشرات الأسعار. التحالف النفطي يرى هذا التحول، لكنه يعرف أيضًا أن الاقتصاد لا يمكنه التخلي عن احتياجاته بين ليلة وضحاها.

يبدو قرار زيادة إنتاج «أوبك بلس» الأخير محاولة لشراء الوقت. التحالف يضع قدمًا في الحاضر، حيث الأسعار تحتاج توازنًا، وقدمًا أخرى في المستقبل، حيث النفط قد يصبح سلعة أقل أهمية، لكن لايزال يؤمن الموازنات والموانئ، وسلعًا استراتيجية. لعبة بقاء، لا لعبة أرقام فقط.

المقلق أن هذا النمط من القرارات المتدرجة يفترض أن العالم سيبقى متوقعًا. لكن الحرب في أوكرانيا، واضطراب الشحن، وتباطؤ الصين الصناعي، تجعل أي خطة طويلة تبدو كتوقعات الطقس بعد شهر. لهذا يظل التحالف في حالة استعداد، يراقب، ويعدّل، ويكرر أنه مرن، لكنه لا يكشف أي شيء أكثر مما يريد.

الزيادة المقررة في الإنتاج ستعكسها شاشات المستثمرين وأوراق السياسات النقدية. عندما ترفع «أوبك بلس» الإمدادات ولو بنسبة طفيفة، فإن البنوك المركزية في العالم تجد نفسها أمام سؤال صعب: هل يعني هذا استقرار الأسعار، أم مجرد محاولة لتأجيل التوتر، انتظارًا لأزمة جديدة تظهر فجأة؟

الأسواق المالية لا تطيق المفاجآت. خلال الأشهر الماضية، كان المستثمرون يتعاملون مع النفط كأنه مؤشر على أعصاب العالم. السعر حين يهبط إلى 60 دولارًا يتصرفون كأن الركود قادم، وحين يعود إلى 65 يلتقطون أنفاسهم. لكن لا أحد يثق تمامًا أن هذا النطاق سيبقى دون تدخل جديد أو خطأ سياسي.

في المقابل، تضغط شركات الشحن والطيران للحصول على وضوح. تكاليف الوقود لا تترك مساحة للخطأ. أي ارتفاع غير محسوب ينعكس على الأسعار النهائية للسلع والسياحة والتجارة. تراقب هذه القطاعات خطوات تحالف «أوبك بلس» عن كثب، تتعدد حساباتها المعقدة، وخططها الأساسية والاحتياطية ارتباطًا بالتطورات.

الأسواق تعرف أن التحالف يراقب المخزونات في العالم كما لو كانت خزائن أسراره. انخفاضها يعطي الضوء الأخضر لزيادة الإنتاج، وارتفاعها يؤدي إلى شد الحبل فورًا. لكن السؤال: هل لاتزال هذه الآلية كافية في عالم تتغير فيه أساليب الاستهلاك، ويتراجع فيه الاعتماد على الوقود التقليدي تدريجيًا؟

هناك مخاوف من أن العقوبات على روسيا قد تخلق سوقًا موازية يصعب تتبعها. النفط الروسي لم يختفِ. تغيرت طرق وصوله، وتغيرت العملات التي يُباع بها. هذا يجعل الأرقام الرسمية أقل شفافية، ويضع التحالف أمام لعبة أوسع من قدرته على التحكم الكامل.

العقود المستقبلية تعكس هذا القلق. المستثمرون لا يشترون النفط فقط، بل يشترون سيناريوهات سياسية واقتصادية. كل قرار من تحالف «أوبك بلس» يصبح اختبارًا لإيمانهم بالاستقرار أو توقعهم للفوضى. البعض يرى الزيادة الأخيرة محاولة لتثبيت السعر في منطقة مريحة، والبعض الآخر يراها تأجيلًا لا أكثر لمواجهة مؤجلة.

المحبطون يرون الصورة أبسط. يتصورون أن كل هذه التحركات ليست إلا محاولة من الدول المنتجة لحماية دخلها، وإن الحديث عن توازن السوق مجرد غطاء. قد لا يكون هذا التفسير دقيقًا بالكامل، لكنه يعكس حالة انعدام الثقة بين الناس وصناع القرار، وهي حالة لا تعالجها البيانات وحدها.

التحالف يعرف أن الزمن لا يعمل لصالحه. العالم يتغير، والخيارات البديلة تتكاثر، والرأي العام صار يرى النفط جزءًا من المشكلة لا من الحل. قرار اليوم إذًا ليس مجرد تعديل في الأرقام، بل محاولة لإثبات أن النفط لايزال له دور، حتى لو بدأ يفقد بريقه.

داخل دول التحالف، لا تبدو الصورة موحدة كما يظهر في البيانات المشتركة. لكل دولة حساباتها الداخلية، وموازنة تنتظر إيرادات النفط، ومجتمع يسأل عن التعليم والصحة والعمل. هذا يجعل كل قرار بشأن الإنتاج ليس مجرد أرقام، بل صراعًا بين الاحتياج المالي والخوف من تراجع الأسعار عالميًا.

السعودية، اللاعب الأكثر تأثيرًا، تحاول تحقيق توازن حساس بين خطط التحول الاقتصادي ومشروعها لجذب الاستثمار الأجنبي، وبين ضرورة الحفاظ على سعر يجعل موازنتها مستقرة. تخفيض الإنتاج سابقًا كان مكلفًا، لكن السماح بانخفاض الأسعار إلى مستويات مؤذية قد يكون أكثر خطرًا على طموحاتها.

روسيا تواجه مأزقًا مختلفًا. العقوبات الغربية قلّصت قدرتها على بيع النفط بحرية، لكنها لم توقف صادراتها تمامًا. تستخدم موسكو التخفيضات والزيادات كوسيلة لإرسال رسائل سياسية، لكن الواقع أنها تحتاج كل برميل لتمويل حرب مكلفة، وبنية تحتية تعاني التهالك، واقتصاد يبحث عن متنفس.

الإمارات تنظر لمسألة الإنتاج بشكل استثماري بحت. توسّع طاقتها الإنتاجية، وتبحث عن فتح أسواق جديدة في آسيا وإفريقيا، وتعرف أن مستقبل النفط محدود زمنيًا. لذلك تسعى لاستباق الزمن: إنتاج أكثر في الحاضر، مع بناء اقتصاد لا يعتمد على النفط مستقبلًا، ولو خلق ذلك توترًا داخل التحالف.

العراق يعيش بين مطرقة الحاجة إلى السيولة، وسندان التزامه بحصته. الحكومة بحاجة لتمويل الرواتب وخدمات تفتقر للاستقرار، والمجتمع يضغط. كل زيادة طفيفة في الإنتاج تُستقبل كفرصة لتهدئة الداخل، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات حول قدرته على الالتزام بأي اتفاق طويل الأمد.

الكويت أكثر تحفظًا، تمتلك صندوقًا سياديًا ضخمًا، لكن بنية الاقتصاد تعتمد على النفط بصورة شبه كاملة. الزيادات الصغيرة تمنحها متنفسًا دون أن تغامر بالتأثير على الأسعار. ومع ذلك، تعي أن استمرار الاعتماد على النفط يشبه الوقوف على أرض تتآكل ببطء، بينما الزمن يعمل ضدها.

سلطنة عمان والجزائر (وسط أوضاع مالية أقل مرونة)، تنظران إلى كل تحرك من تحالف «أوبك بلس» كفرصة أو تهديد.الإيرادات النفطية تشكل شريانًا رئيسيًا للموازنة. زيادة الإنتاج تمنحهما موارد إضافية، لكنها تخشى أن تتسبب في هبوط الأسعار إذا فشل التحالف في إدارة التوازن العالمي بدقة.

هناك واقع لا يُقال رسميًا: دول التحالف لا تثق كلها في التزام بعضها الآخر. تجربة السنوات الماضية كشفت أن بعض الأعضاء ينتظرون أي فرصة لتجاوز حصتهم إذا وجدوا الطلب مرتفعًا أو الرقابة ضعيفة. هذا يزيد من الغموض ويجعل البيانات المشتركة أقرب لمحاولة ضبط صورة أكثر من ضبط واقع.

تاريخيًا، كانت السعودية تغطي تجاوزات الآخرين بخفض إضافي لتعويض الفائض. لكن هذا النموذج أصبح مرهقًا، خاصة مع ارتفاع تكاليف المشاريع الداخلية. اليوم، الرياض تريد التزامًا حقيقيًا، لا بيانات فقط. من هنا يأتي تصميمها على مراقبة الأسواق وتعديل السياسة بأصغر التفاصيل الممكنة.

التحدي الحقيقي ليس في كمية الإنتاج فقط، بل في توقيته. رفع سعر البرميل في لحظة خاطئة قد يضرب الاستهلاك العالمي، وخفضه في وقت غير مناسب قد يؤدي لفجوة سعرية تغري المستثمرين بالمضاربة العنيفة. لهذا تبدو قرارات التحالف بطيئة، لكنها محملة بحسابات غير معلنة.

الصراع الداخلي لا يظهر للعلن، لكنه واضح لمن يراقب. كل دولة تحاول أن تحصل على أكبر حصة دون التسبب بانهيار السوق. إنها ليست شراكة مثالية، بل اتفاق مصلحي قائم على الخوف من البدائل، وعلى إدراك أن الفشل الجماعي يعني خسارة طويلة لا يمكن ترميمها بسهولة.

هناك أيضًا خوف من التحولات العالمية. الاستثمارات العالمية تتجه نحو الطاقة المتجددة، والتشريعات البيئية تشدد الخناق، والصناديق السيادية تبحث عن تنويع حقيقي. هذا يجعل دول «أوبك بلس» تعيش قلقًا مزدوجًا: الحفاظ على الحاضر، والاستعداد لعالم ربما لا يحتاج نفطها كما قبل.

في الاجتماعات المغلقة، يدور الحديث حول المستقبل أكثر من الحاضر. ماذا سيحدث إذا انخفض الطلب فعليًا بعد عشر سنوات؟ كيف يمكن تمويل الموازنات؟ هل سيظل التحالف قادرًا على التأثير، أم أن الطاقة الشمسية والهيدروجين ستسحب البساط؟ هذه الأسئلة باتت مقلقة أكثر من تقلبات الأسعار.

من هنا، فالقرار الأخير ليس مجرد تعديل في السياسة، بل محاولة لإثبات أن التحالف قادر على البقاء متماسكًا رغم كل التباينات. لا أحد يريد الاعتراف بأن الزمن يضغط، لكن الجميع يشعر بذلك. الزيادة الصغيرة في الإنتاج ليست إشارة قوة ولا ضعف، بل محاولة لتنظيم الفوضى دون إعلان الهزيمة.

في الأفق، تظهر ملامح سوق لا تشبه الماضي. النفط لم يعد الملك الوحيد، بل لاعب يشيخ ببطء وسط صعود الطاقات البديلة. «أوبك بلس» ترى هذا التحول، لكنها تحاول تمديد زمن التأثير عبر إدارة الإمدادات بحذر، وتأخير اليوم الذي يصبح فيه الفائض هو القاعدة لا الاستثناء.

العالم الصناعي يهيئ نفسه لاقتصاد منخفض الكربون. الحوافز الحكومية للسيارات الكهربائية، والاستثمارات الضخمة في الهيدروجين وتخزين الطاقة، تجعل الطلب المستقبلي على النفط أقل يقينًا مما كان عليه لعقود.تطورات تشكل تهديدًا وجوديًا لدول تعتمد موازناتها على كل دولار من عائدات الخام.

المفارقة أن هذه التحولات لا تحدث بالسرعة التي يتخيلها المتحمسون للبدائل. الطائرات، السفن، وسلاسل الإمداد تعتمد على الوقود التقليدي بشكل يكاد يكون مطلقًا. لايزال النفط جزءًا من معادلة البقاء الاقتصادي، حتى لو بدأت مكانته الرمزية تتراجع أمام الشعارات البيئية المتزايدة.

تحالف «أوبك بلس» حاليًا يعمل كمن يحاول إصلاح السفينة أثناء الإبحار. يريد الحفاظ على السعر في مستوى يسمح بالإنفاق الحكومي، دون أن يدفع الاقتصادات المستهلكة للتحول العنيف نحو البدائل. هذه لعبة توازن دقيقة، لكنها لن تدوم إذا اعتقدت الأسواق أن القرارات مجرد مقاومة مؤقتة لواقع لا يمكن منعه.

البنوك الكبرى وصناديق الاستثمار بدأت تُعيد توزيع أموالها نحو الطاقة المتجددة. ليس بدافع الأخلاق فقط، بل لأن المستقبل يبدو هناك أكثر استقرارًا وأقل تقلبًا. ومع ذلك، أرباح النفط لاتزال مغرية في الحاضر، مما يجعل رأس المال يعيش حالة ازدواجية بين الاستفادة الحالية والخوف من الغد.

هناك أيضًا خطر جيوسياسي لا يمكن تجاهله. إذا فقد تحالف «أوبك بلس» قدرته على التأثير، ستبرز أسواق غير منظمة، وشبكات بيع خارج الأطر الرسمية، وسيتحول النفط إلى سلعة بلا مركز قيادة. سيناريو يعني فوضى سعرية، ونزاعات على الحصص، وربما صدامات سياسية يصعب التحكم في مسارها.

التحالف يعتمد الآن على فكرة أن الانضباط الداخلي سيطيل عمر قدرته على التحكم. لكن استمرار التنسيق يتطلب ثقة بين أعضائه، ثقة قابلة للتآكل مع تعاظم الضغوط المالية. كل دولة تفكر سرًا: ماذا لو بدأت بالبيع أكثر قبل أن يفقد السوق قيمته؟ هذا السؤال وحده كفيل بخلق ارتباك.

الطلب العالمي قد يستمر لعقد أو عقدين، لكنه لن ينمو بنفس الوتيرة السابقة. الاقتصادات الكبرى تعمل على تخفيض استهلاكها، ليس فقط لأسباب مناخية، بل لأن الطاقة المتجددة تمنحها استقلالًا عن تقلبات الشرق الأوسط وروسيا. هذا يضع «أوبك بلس» أمام خطر فقدان النفوذ لا فقدان العائد فقط.

ومع ذلك، لايزال للتحالف فرصة. يمكنه توجيه أرباح النفط الحالية نحو بناء اقتصاد بديل، مثلما تفعل بعض الدول بتحويل الفوائض إلى صناديق سيادية واستثمارات تقنية. المشكلة أن الزمن السياسي أقصر من الزمن الاقتصادي، والانتخابات والاحتجاجات لا تنتظر تحولًا هيكليًا طويل المدى.

الأسواق المنتظرة لا تثق بالتصريحات، بل بالأفعال. إذا أراد التحالف الحفاظ على صورته، فعليه إثبات أنه قادر على إدارة التحول لا مقاومته فقط. وهذا يعني قبول فكرة أن النفط سلعة متناقصة القيمة، والعمل على استخدام ما تبقى منها لتعزيز الاستقرار بدل تغذية الأوهام أو الصدامات.

المستهلك العادي لن يهتم بكل ذلك، فهو فقط يريد وقودًا لا يستنزف دخله. لكن ما لا يراه أن هذه اللحظة من الاستقرار الهش جاءت بعد صفقات، وضغوط، ومساومات دولية. وإذا فشل التوازن، فستعود الأسعار للارتفاع أو الانهيار بسرعة تُفقد الجميع ثقتهم بأي سياسة طاقية مستقبلية.

تحالف «أوبك بلس» الآن أمام سؤال أخلاقي واقتصادي: هل يستمر في سياسة إدارة النقص لرفع الأسعار، أم يبدأ فعليًا في خطة انتقال تدريجي تعترف أن العالم يتغير؟ الإجابة ليست سهلة، لأن القبول بفكرة النهاية يعني التخلي عن جزء من السلطة، بينما الرفض قد يؤدي إلى نهاية أكثر قسوة.

لذلك، قد تكون الزيادة الأخيرة في الإنتاج مجرد خطوة صغيرة ضمن محاولة أكبر لقول: نحن هنا، لايزال لنا أثر. لكنها أيضًا رسالة خفية بأن التحالف بدأ يدرك حجم التغيير، حتى لو لم يعترف بذلك علنًا. المستقبل لن ينتظر، ومن لا يتكيف سيجبره السوق على الخروج بصمت.

اقرأ أيضاًأسعار النفط عالميا تتراجع تحت الضغط مع ارتفاع إنتاج «أوبك» وضعف الطلب

النفط يرتفع عالميا مع ترقب لبيانات أمريكية جديدة وتقييم محدود لزيادة إنتاج «أوبك+»

ارتفاع سعر النفط عالميا وسط ترقب المستثمرين لاجتماع «أوبك+» الحاسم في 5 أكتوبر

Exit mobile version