في زمنٍ تتبدّل فيه الخرائط وتُعاد فيه كتابة الجغرافيا بالدم، تعود إفريقيا إلى الواجهة لا كقارةٍ واعدة بالثروات، بل كبركانٍ ينفجر في وجه الإنسانية، حيث تتداخل الحروب الأهلية مع التدخلات الخارجية، وتغيب العدالة الدولية لتفسح المجال أمام الفوضى المقنّعة بالمصالح. وفي القلب من هذا المشهد المأساوي تقف السودان — البلد الذي كان يُفترض أن يكون جسرًا بين إفريقيا والعالم العربي — ليغرق في دوامة الخراب بعد أن كان أرضًا غنية بالذهب والنفط والماء.
بدأت الحكاية من دارفور، الأرض التي عرفت معنى العطش والدم معًا. هناك تحوّلت الثروة إلى نقمة، والنفط إلى لعنة، والذهب إلى وقودٍ لحربٍ بلا نهاية. تفكّك السودان من الداخل، وانقسمت ولاءات النخب بين جيوشٍ ومليشياتٍ قبلية، بينما ترك المجتمع الدولي المأساة تتفاقم كما ترك من قبل غزة تنزف وحيدة تحت القصف. المشهد واحد: دماء تُراق، ومآسٍ تُروى، وصمتٌ دولي فاضح لا يرى في الجنوب سوى مسرحًا لتصفية الحسابات.
إنّ ما يجري في الفاشر من إبادة ممنهجة ليس مجرد صراع داخلي على السلطة، بل هو فصلٌ من فصول حربٍ جيوسياسية تتداخل فيها أطماع القوى الإقليمية والدولية. من الذهب إلى الموانئ إلى الأرض الزراعية الخصبة، تتكاثر الأيادي الخفية التي تعبث بمستقبل السودان، فيما تُستخدم الفوضى كأداة لإعادة توزيع النفوذ في البحر الأحمر وشرق إفريقيا.
وبينما يشتعل الجنوب، تتجه الأنظار شمالًا نحو مصر، التي تجد نفسها بين نيرانٍ ملتهبة تمتد من غزة إلى دارفور. فالأمن القومي المصري لم يعد مهددًا فقط من الشرق عبر سيناء وغزة، بل من الجنوب حيث تتداعى الدولة السودانية، ويطلّ خطر جديد من بوابة النيل — شريان الحياة ومصدر الصراع الأبدي في المنطقة. إن تفكك السودان لا يعني فقط مأساة إنسانية، بل تهديدًا استراتيجيًا مباشرًا للأمن المائي والغذائي المصري.
إنّ ما يدور اليوم في السودان هو تجلٍّ جديد لمعادلة “الفوضى الخلّاقة” التي طُبّقت في الشرق الأوسط منذ مطلع الألفية. القوى الكبرى تتدخّل، والميليشيات تتحرك، والمجتمع الدولي يتحدث عن الإنسانية بينما يرعى تقسيم الدول من الداخل. وكما جرى في العراق وسوريا وليبيا واليمن، تتكرّر السيناريوهات نفسها بوجوه جديدة: انهيار الدولة المركزية، انتشار السلاح، تفكك النسيج الاجتماعي، وفتح الباب أمام مشاريع التقسيم والإلحاق الجغرافي.
في ظل هذه الفوضى، تحاول القاهرة أن تدير المعركة بعقل بارد ورؤية طويلة المدى. فهي تدرك أن الانجرار إلى صراعٍ مباشر في السودان سيكون فخًا استراتيجيًا يضعها في مواجهة استنزاف مفتوح. لذلك اختارت النهج الدبلوماسي الاستخباراتي الهادئ، الذي يوازن بين مصالحها القومية وحسابات الإقليم، ويستند إلى قاعدة تاريخية راسخة مفادها أن أمن السودان جزء لا يتجزأ من أمن مصر.
لقد تحركت أجهزة الدولة المصرية في دوائر صامتة، بعيدًا عن ضجيج الإعلام، لتحتفظ بخيوط التواصل مع جميع الأطراف دون انحياز علني، مدركة أن الحل في السودان لن يأتي إلا من الداخل، لكن لا بد أن يُصان من الخارج. فالقاهرة — بخبرتها الطويلة في إدارة الأزمات الإقليمية — تتعامل مع الملف السوداني بعقلية “إطفاء الحرائق قبل اشتعالها”، لا بعقلية التصعيد أو التدخل العسكري المباشر.
هذه البراغماتية الهادئة في السياسة المصرية ليست ضعفًا كما يظن البعض، بل انعكاس لوعي استراتيجي عميق بأن المعركة الكبرى اليوم ليست في ميدان القتال، بل في ميدان المعلومات والتحالفات. فالمخابرات والدبلوماسية تعملان في تكامل غير معلن، لتقليل الخسائر وحماية الحدود وتجنب استنزاف الدولة في نزاعات الآخرين.
وفي المقابل، يظل المجتمع الدولي غائبًا عن مسرح المأساة، يتفرج على جرائم الإبادة في الفاشر وكأنّها مشهد من فيلمٍ بعيد.ازدواجية المعايير أصبحت السمة الأبرز في تعامل القوى الكبرى مع الأزمات: يتحرك العالم كله لأجل أوكرانيا، بينما لا يتحرك أحد لأجل دارفور. تُفرض العقوبات هنا، وتُغضّ الأبصار هناك. وكأنّ دماء الأفارقة أقلّ قيمة من دماء الأوروبيين.
هذه المفارقة الأخلاقية ليست جديدة، لكنها اليوم أكثر وضوحًا من أي وقتٍ مضى. فالإعلام الغربي يتحدث عن غزة كـ”أزمة إنسانية” لا كجريمة حرب، ويتجاهل تمامًا أن ما يجري في السودان هو إبادة جماعية مكتملة الأركان. خلف هذه الصمت مصالح الشركات، وصفقات السلاح، وخطوط الطاقة، والذهب الذي يهرب إلى الخارج بينما يُدفن أهله في الرمال.
تدرك القاهرة أن ما يحدث في السودان وغزة ليسا ملفين منفصلين، بل جبهتين متصلتين في حرب إعادة رسم التوازنات الإقليمية. ففي غزة، تُحاول إسرائيل فرض واقع جديد على حدود مصر الشرقية، بينما في دارفور تُستخدم الفوضى لتطويق مصر من الجنوب. وكأنّ القدر وضعها وسط حلقتي النار في مشروع تفكيكٍ أكبر يستهدف قلب المنطقة العربية.
لكنّ مصر، رغم كل الضغوط، لم تفقد بوصلتها. فهي لا تزال تُدير المعركة وفق منطق الدولة العميقة، لا منطق ردّ الفعل الانفعالي. تحافظ على علاقاتها مع جميع القوى الإقليمية، وتبني تحالفاتها وفق ميزان المصالح لا العواطف. والأهم أنها تُعيد تعريف مفهوم الأمن القومي ليشمل دوائر أوسع: من مياه النيل إلى سواحل البحر الأحمر، ومن غزة إلى دارفور.
إنّ الدور المصري اليوم في إفريقيا لم يعد ترفًا دبلوماسيًا، بل ضرورة استراتيجية. فكل انهيار في السودان أو إثيوبيا أو جنوب السودان يعني زلزالًا يصل صداه إلى وادي النيل. ولذلك تُحاول القاهرة أن تعيد بناء دبلوماسية إفريقية متوازنة، تنطلق من مبدأ “الاستقرار المشترك”، لا من منطق الهيمنة أو الوصاية. وهي بهذا تسعى لتأكيد حضورها في القارة كقوة عقلانية تسعى للسلام، في مواجهة موجة الجنون السياسي التي تضرب العالم.
ومع كل ذلك، تبقى دارفور جرحًا مفتوحًا في الجسد العربي والإفريقي. جرحًا يذكّرنا بأن العالم لم يتعلّم شيئًا من دروس التاريخ، وأن العدالة الدولية التي تتشدق بها الأمم المتحدة ليست سوى شعار بلا مضمون. لقد تُركت دارفور كما تُركت غزة، لتواجه مصيرها وحدها، بينما تتفرّج القوى الكبرى من مقاعد المراقبة.
من غزة التي تحترق كل يوم، إلى دارفور التي تُباد في صمت، تقف مصر أمام تحدٍّ استراتيجي مزدوج: كيف تحمي أمنها القومي دون أن تنجرّ إلى حروب الآخرين؟ وكيف تبقى صوت العقل في زمنٍ فقد منطقه؟ الجواب يكمن في العقلانية المصرية القديمة، تلك التي صاغت أولى حضارات الإنسان، وتعلّمت كيف تحوّل الكوارث إلى فرص، والهزائم إلى دروس.
وفي نهاية المشهد، قد تتغير الحدود، وقد تتبدل التحالفات، لكنّ الثابت أن مصر ستبقى صمام الأمان في منطقة تُدفع نحو التفكيك، لأنها ببساطة الدولة التي لا يمكن كسرها أو تجاوزها. فبين نيران غزة ولهيب دارفور، تظل القاهرة تُمسك بخيوط الاتزان، لتؤكد أن حضورها ليس فقط في السياسة، بل في الوعي الجمعي للأمة كلها.. .!!
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. [email protected]

