من بكين إلى موسكو.. الشرق يعيد ترتيب العالم

شهد العقد الأخير تسارعًا ملحوظًا في التحولات البنيوية التي تطال النظام الدولي، حيث بات المشهد العالمي يتحرك نحو تعددية فعلية في مراكز القوة بعد عقود من التفوق الأمريكي، وفي قلب هذه التحولات، يبرز الفضاء الأوراسي باعتباره أحد أهم المحاور التي تُعاد من خلالها صياغة العلاقات الدولية.
ومع اتساع الشراكة بين الصين وروسيا وتزايد انخراط قوى إقليمية أخرى في ترتيبات اقتصادية واستراتيجية جديدة، تُطرح تساؤلات حول طبيعة الدور الذي ستلعبه أوراسيا في المدى الطويل وكيف سيساهم هذا الدور في إعادة توزيع القوة عالميًا.
المقالة تسعى إلى تقديم قراءة معمقة لمسار الأوراسية الحديثة، من حيث خلفياتها التاريخية، وديناميكيات التعاون بين القوى الفاعلة فيها، وتأثيراتها على الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط. ويستند التحليل إلى رؤية تتعامل مع أوراسيا بوصفها مشروعًا قيد التشكل كتكتل ثابت يتفاعل مع بيئة دولية تتغير باستمرار.
أوراسيا كفكرة ومجال جيوسياسي التطور من الوصف إلى الفعل
الخلفية التاريخية لمفهوم أوراسيا
ظهر مفهوم أوراسيا تاريخيًا في إطار الدراسات الجغرافية التي تناولت الترابط بين أوروبا وآسيا. لكن مع نهاية الحرب الباردة، تحوّل إلى إطار نظري يستخدم لتفسير تحولات القوة في قلب القارة الآسيوية وقد ساعدت ثلاثة عوامل على انتقال المفهوم من «جغرافيا» إلى «مشروع سياسي:
1- صعود الصين الاقتصادي الهائل منذ مطلع الألفية
2 – عودة روسيا تدريجيًا إلى الساحة الدولية بعد 2008.
3 – تراجع قدرة الغرب على ضبط التفاعلات العالمية كما في العقود السابقة.
هذا التفاعل بين القوى المختلفة خلق فراغًا نسبيًا في مركز القارة، سمح بظهور تكتلات جديدة متداخلة مثل منظمة شنغهاي للتعاون، وتحالفات الطاقة العابرة للحدود، وشبكات الحزام والطريق.
الحزام والطريق كعصب اقتصادي للأوراسية الحديثة
أصبحت مبادرة «الحزام والطريق» واحدة من أكثر المشاريع تأثيرًا في العالم، نظرًا لحجم الدول المشاركة فيها وانتشارها عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وتعمل المبادرة على:
– إنشاء ممرات تجارية وبحرية وبرية تربط الشرق بالغرب.
– تعزيز الاستثمارات في البنية التحتية.
– تطوير شبكات لوجستية جديدة تقلل من مركزية الممرات البحرية التقليدية.
وعلى الرغم من النقاشات المرتبطة بديون بعض الدول المشاركة، فإن المبادرة خلقت واقعًا جديدًا يربط قارة ضخمة بشبكات اقتصادية تختلف عن الأنماط الغربية المعتمدة على المؤسسات المالية الدولية.
توازنات القوة بين الصين وروسيا.. شراكة محسوبة بدقة
ماهي دوافع التعاون بين الطرفين؟
يتأسس التعاون بين الصين وروسيا على مجموعة من المصالح المتقاطعة، أهمها:
– رغبة البلدين في تقليل الاعتماد على الغرب.
– سعيهما إلى تطوير مسارات تجارة وطاقة مستقلة.
– مواجهة التحديات الأمنية المرتبطة بحلف الناتو في أوروبا والوجود الأمريكي في آسيا.
ومع ذلك، فإن الشراكة بينهما ليست تحالفًا كاملاً وإنما تعاون متعدد المستويات يُدار وفق حسابات دقيقة.
الموازنة بين التنافس والتكامل
على الرغم من التقارب، توجد مساحات محتملة للتنافس، خاصة في آسيا الوسطى، ومع ذلك، استطاعت الدولتان تفادي الصدام عبر الآتي:
– تقسيم غير معلن للأدوار في مجالات النفوذ.
– التركيز على التعاون في ملفات الطاقة والتكنولوجيا والاتصالات.
– تطوير آليات ثنائية لمعالجة الملفات الحساسة.
هذا «التوازن الحذر» هو ما يجعل الشراكة قوية دون أن تتحول إلى تحالف سياسي أو عسكري شامل.
توسع التجارة والارتباطات البنيوية
تجاوزت التجارة بين البلدين 240 مليار دولار سنة 2024، مدفوعة بتغيرات في السوق العالمية للطاقة وبتوجه روسيا لتعزيز صادراتها شرقًا.
وهذا النمو يعكس:
– تعزيز الاعتماد المتبادل في الطاقة.
– تطوير خطوط النقل الجديدة مثل «قوة سيبيريا».
-ارتفاع مستوى الثقة الاقتصادية بين الطرفين.
– موقع الولايات المتحدة في مواجهة التحولات الأوراسية.
– تراجع القدرة على إدارة النظام الدولي منفردة.
ولا تزال الولايات المتحدة قوة عالمية مركزية، لكنها لم تعد اللاعب الوحيد قادرًا على فرض أولويات عالمية جامعة.
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب أهمها يكمن في صعود الصين اقتصاديًا، وتوسع شبكة التحالفات الجديدة، وظهور دول متوسطة القوة تسعى إلى تنويع خياراتها.
وهذا لا يعني «نهاية النفوذ الأمريكي»، لكنه يشير إلى تراجع قدرة واشنطن على توجيه النظام الدولي كما فعلت في التسعينيات والعقد الأول من الألفية.
واشنطن بين الاحتواء والمشاركة
ومن جانبها تحاول الولايات المتحدة التعامل مع الصين عبر استراتيجية احتواء ناعم، تجمع بين الآتي:
– تقوية تحالفاتها في المحيطين الهندي والهادئ.
– تطوير صناعات التكنولوجيا المتقدمة.
– مراقبة شبكات الطاقة والاتصالات المرتبطة بأوراسيا.
ولكن هذه الاستراتيجية تواجه تحديات نتيجة توسع شراكة الصين مع دول الجنوب العالمي، وتنامي استقلالية عدد من الحلفاء التقليديين.
أوروبا في موقع المراقب المتأثر بالتحولات
تعتمد الآن أوروبا بشكل كبير على طرق التجارة والطاقة التي تمر عبر أوراسيا، مما يجعلها من أكثر الأطراف تأثرًا بهذه الترتيبات.
وتتعامل الدول الأوروبية مع التحولات الأوراسية عبر مسارين:
1- تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية بعد حرب أوكرانيا.
2- التعامل بحذر مع توسع الصين في أوروبا الشرقية والبلقان.
ورغم هذا الحذر، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى:
– على قنوات اتصال قوية مع الصين.
– مراقبة التفاهمات الروسية- الآسيوية.
– إعادة تقييم استراتيجياتها الصناعية والتكنولوجية.
الشرق الأوسط.. قراءة في موقع مصر داخل المعادلة الجديدة
سياسة التوازن متعدد المسارات
تتبنى مصر الآن بقيادة سياسية واعية وبحنكة بالغة سياسة خارجية تقوم على بناء شراكات متنوعة دون الانحياز الكامل لأي محور، فتقوم مصربتطوير التعاون مع الصين في البنية التحتية والطاقة المتجددة، وتعزيز الروابط مع روسيا في مجالات الصناعة والطاقة، وفي الوقت نفسه الحفاظ على علاقات استراتيجية راسخة مع الولايات المتحدة وأوروبا.
موقع مصر في المبادرات العابرة للقارات
وفي ذات السياق ترتبط القاهرة بعدد من المشروعات الكبرى ضمن الحزام والطريق، بما يشمل:
– موانئ.
– مناطق لوجستية.
– شراكات في الطاقة الخضراء.
ويمنحها هذا التفاعل موقعًا يسمح لها بالاستفادة من التحولات العالمية مع الحفاظ على استقلال قرارها السياسي.
تُظهر المعطيات الحالية أن( أوراسيا) ليست كتلة سياسية مكتملة، بل إطار متطور يجمع قوى تبحث عن ترتيبات أكثر توازنًا داخل النظام الدولي.
ومع توسع المبادرات الاقتصادية وتزايد الشراكات الاستراتيجية، يساهم الفضاء الأوراسي في إعادة تعريف معادلات (القوة العالمية)، دون أن يلغي دور الولايات المتحدة أو أوروبا، بل يعيد توزيع المساحة بينها وبين القوى الصاعدة.
إن العالم يتحرك اليوم نحو شبكة (متعددة الأقطاب)، تتشارك فيها دول كبرى ومتوسطة في صياغة قواعد التعامل العالمي. ومع استمرار التفاعلات بين بكين وموسكو وواشنطن وأوروبا والشرق الأوسط، سيبقى الفضاء الأوراسي أحد أهم المحركات الأساسية لصياغة القرن الحادي والعشرين.
اقرأ أيضاًلافروف: موسكو تأمل أن تمتنع واشنطن عن خطوات قد تصعّد الصراع الأوكراني
الخارجية الروسية: موسكو لن تنجر وراء استفزازات بروكسل في أزمة التأشيرات
موسكو: تصريحات ترامب حول تجارب الأسلحة النووية «خطيرة للغاية»