الصورة الذهنية لمجلس النواب القادم

تشهد الصورة الذهنية لأعضاء مجلس النواب القادم شرخًا مبكرًا وغير مسبوق في نظر بعض قطاعات الرأي العام، بعد أن طغى المال السياسي على المشهد الانتخابي، وغابت معايير الكفاءة والجدارة عن اختيارات عدد من الأحزاب لمرشحيها. وقد عبّر البعض عن استيائهم بوضوح عبر موجات من المحتوى السياسي المكثف على مواقع التواصل الاجتماعي، وشبه بعض السياسيين ما جرى بأنه أقرب إلى أجواء انتخابات سابقة مثيرة للجدل.
لا يعكس هذا التوصيف أزمة في الشكل الانتخابي فقط، بل يشير إلى خلل أعمق في العلاقة بين المواطن ومؤسسات التمثيل السياسي، حيث تتراجع فكرة «النيابة عن الأمة» أمام منطق النفوذ والمال والمصالح.
ومع ذلك، ما زال هناك متسع لتصحيح المسار من خلال خطوات إصلاحية حقيقية ومواقف مسؤولة من داخل البرلمان وخارجه، كفيلة بإعادة الثقة وترسيخ الشرعية المعنوية التي تمنح أي مجلس نيابي مكانته لدى المواطنين.
تحسين الصورة الذهنية لأي مجلس نيابي يبدأ من داخله، عبر الإصلاح الذاتي وإعلاء معايير الشفافية والمساءلة، فالمواطن الذي تابع الحملات الانتخابية ويتابع اليوم نتائجها، ينتظر من النواب أداءً مختلفًا يعكس التغيير الحقيقي. ومع ذلك، فإن المجلس لا يمكنه أن ينهض وحده بهذه المهمة المعقدة ما لم تتبنَّ الدولة والأحزاب السياسية مراجعة جادة لأسباب التراجع.
فالأحزاب مطالبة بتطوير معايير اختيار المرشحين بحيث تقوم على الكفاءة والخبرة لا الولاء والمصلحة، كما أن الدولة مطالبة بتعزيز الإطار التشريعي والتنظيمي الذي يضمن نزاهة المنافسة الانتخابية وشفافية التمويل السياسي.
ويبدأ تحسين الصورة الذهنية أيضًا من داخل البرلمان نفسه، من خلال إصلاح آلياته وتبني ممارسات تعيد للناس الثقة في دوره الرقابي والتشريعي.
ويأتي على رأس الأولويات وضع ميثاق سلوك برلماني يركز على النزاهة ويمنع تضارب المصالح أو إساءة استخدام الصفة النيابية، بحيث تتابع لجنة مستقلة للأخلاقيات الالتزام بالسلوك البرلماني، وتضمن محاسبة أي مخالفة، بعيدًا عن الحسابات السياسية أو المجاملات، يمثل هذا جزءًا من الإصلاح الصامت الذي يجري في مؤسسات الدولة لتعزيز الانضباط والشفافية وربط السلطة بمسؤولية حقيقية تجاه المواطنين.
كما أصبح مهمًا نشر تقارير دورية عن الأداء التشريعي والرقابي، وإتاحة الجلسات للبث العلني، وتفعيل أدوات التواصل مع المواطنين في الدوائر، بما يجعل البرلمان أقرب إلى الناس وأكثر وضوحًا في قراراته.
ويشمل ذلك تفعيل الموقع الإلكتروني للمجلس وصفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ديناميكي وتفاعلي، مع إمكانية إدارة المحتوى باحترافية عبر شركات متخصصة، لضمان وصول الرسائل والمبادرات بشكل مهني.
ويستمر استكمال منظومة التشريعات التي نصت عليها الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، مع بذل مزيد من الجهد لدراسة الأثر التشريعي للقوانين قبل إصدارها لضمان توافقها مع المعايير الحقوقية وتعزيز العدالة والشفافية. وفيما يتعلق بالمزايا المالية للأعضاء، يُراعى التحلي بالمسؤولية، مع تحاشي زيادتها إلا ضمن حزم متكاملة تهدف إلى رفع مستوى دخل العاملين بالدولة، لتجنب أي إحساس بالمحاباة أو التمييز.
وترميم الصورة لا يتحقق فقط بالقوانين، بل من خلال الفعل الملموس في حياة المواطنين، فحين يرى المواطن أن نائبه يشارك في سن قانون يصب في مصلحته، ويسهم مع أعضاء دائرته في تطوير مدرسة، أو دعم مشروع صغير، أو تحسين خدمة عامة، تتغير صورته عن المجلس برمّته.
كما أن إشراك البرلمان في مراقبة تنفيذ المبادرات الوطنية الكبرى، وربطه بمشروعات تنمية محلية، يعزز مكانته كمؤسسة متابعة وشريكة في التنمية، لا مجرد جهة تشريعية بعيدة عن الشارع.
ولأن الصورة الذهنية لا تنفصل عن الوعي العام، أصبحت إعادة بناء الوعي السياسي ضرورة. فالمواطن الذي لا يدرك طبيعة دور البرلمان قد يخلط بين مسؤولياته وبين مسؤوليات الحكومة.
من هنا تأتي أهمية تنظيم برامج توعية عامة حول معنى التمثيل النيابي ودور المواطن في محاسبة النائب، إلى جانب دعم التعليم المدني في المدارس والجامعات لتكوين جيل أكثر وعيًا بالمشاركة السياسية. كما أن إطلاق حملات تعريفية بدور البرلمان الحقيقي وأهميته في خدمة الناس لا النخبة، يسهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة وإعادة الثقة في المؤسسات المنتخبة.
وحتى تكتمل معادلة الثقة، لا بد من إعادة بناء الرمزية السياسية للبرلمان. فاختيار شخصيات برلمانية ذات كفاءة ومصداقية لإدارة الملفات الحساسة والتحدث باسم المجلس يمنح المؤسسة وجهًا نزيهًا وقويًا في آن واحد.
كما أن تبنّي مبادرات رمزية مثل جلسات استماع علنية لقضايا الرأي العام، أو زيارات ميدانية للمناطق المهمشة، يخلق جسورًا إنسانية حقيقية بين البرلمان والمجتمع.
كما يمكن تعزيز مكانة البرلمان عبر تنشيط العمل البرلماني على المستويين الإقليمي والدولي، من خلال المشاركة الفعّالة في الشبكات والمنتديات البرلمانية، واستضافة مصر لورش عمل ومؤتمرات متخصصة، واتباع أفضل الممارسات العالمية في تعزيز الشفافية والمساءلة.
ويمكن الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، مثل جلسات الاستماع العلنية التي ينظمها البرلمان الكندي لإشراك المواطنين في صياغة القوانين، واستخدام بطاقات تقييم الأداء في جنوب أفريقيا لتقييم النواب بشفافية، مع تمكين المواطنين من متابعة أعمال النواب والمشاركة في النقاشات بشكل فعّال وشفاف عبر الرقمنة والمنصات الرقمية.
إن الصورة الذهنية ليست مسألة شكلية أو إعلامية، بل هي رأسمال الثقة الذي يقوم عليه النظام السياسي بأكمله. كلما اقترب البرلمان القادم من الناس، وتحرّر من منطق النفوذ، وتبنّى خطابًا صادقًا ومسؤولًا، استعاد مكانته الطبيعية في ضمير الأمة بوصفه صوتها الحقيقي وحارس مصالحها العامة.
وعندما يرى المواطن أن النائب يعمل بضمير، ويطرح مبادرات واقعية، ويتحدث بلغة صادقة، تعود الثقة تلقائيًا، ويتحول البرلمان من عبء سياسي إلى ركيزة وطنية. عندها فقط يمكن القول إن التجربة النيابية قد تجاوزت محنتها واستعادت احترامها وشرعيتها في قلوب المواطنين قبل أوراق القوانين.
(يوسف ورداني مدير مركز تواصل مصر للدراسات – مساعد وزيرى الشباب والرياضة السابق)
اقرأ أيضاًرسمياً.. إعلان نتيجة انتخابات مجلس النواب 2025 للمرحلة الأولى في هذا الوقت
رئيس مجلس النواب: صدور قانون الإجراءات الجنائية محطة فارقة في مسيرة الدولة المصرية الحديثة